سيرته
الذاتية
ولد
إمانويل كانط في 1724 في كونغسبرغ عاصمة روسيا ذلك الوقت، هي اليوم كيلننغراد في روسيا. كان الرابع من بين أحد عشر ولدا (أربعة
منهم بلغوا سن الرشد).
عمد واسمه "Emanuel" وغير اسمه إلى
"Immanuel" بعد تعلمه العبرية. في حياته كلها
لم يسافر أبداولم يبتعد أكثر من مئة ميل عن كونغسبرغ. والده جوهان جورج كانط (1682-1746) كان صانع أطقم فرس في مدينة ميمل شرق بروسيا (الآن كليبدا في ليتوانيا).
أمه، ريجينا رويتر (1697-1737) ولدت في نورمبرغ. جد كانط هاجر من أسكتلندا إلى شرق روسيا ولم يزل والده يملي اسم عائلتهم
"Cant".
في شبابه
كان كانط طالبا قويا ولو كان ضعيف البنية. تربي في بيت تقوى (حركة تتبع اللوثرية)
تشدد كانط بقوة على الإخلاص الديني والتواضع والتفسير الحرفي للكتاب المقدس.
بالتالي تلقى كانط تعليما صارما ـ قاسيا وتأديبيا انضباطيا ـ يؤثر اللاتينية
وتعليم الدين على الرياضيات والعلوم.
لحسن حظ كانت
الشاب كان فرانز شولتز قس/مربي العائلة ذهل لنضوج كانط المبكر وأقنع العائلة
بإرساله إلى مدرسة في الكلية الفردركية حيث كان شولتز رئيسا. هناك قضى كانط ثمان سنوات—ستة أيام
أسبوعيا من السابعة صباحا حتى الرابعة مساء—يدرس اللاتينية اليونانية العبرية
الفرنسية والرياضيات واللاهوت. بعد تخرجه ثانيا على صفه كان كانط ابن السادسة عشرة
سجل في جامعة كونغسبرغ حيث كانت اهتماماته بالفلسفة والعلم
اْوقدت البروفسور الخبير مارتن كنوتزن. قضى كانط سبع سنوات في الجامعة لكنه لم
يتخرج بسبب ضائقة مالية: توفيت والدته في 1737 وتوفي والده في 1746. ليدعم نفسه
كان عليه ترك الكلية ويخدم كمعلم خاص لأطفال الأسر الثرية قريبا من كونغسبرغ.
أثناء هذه السنوات كرس وقت فراغه الطويل في الدراسة الذاتية وكتابة أطروحة. في 1755
عاد إلى الجامعة ودافع بنجاح عن الأطروحة وأعطي وظيفة برفاتدوزنت (ملحق مساعد
أستاذ) مرتبة متدنية بقليل من البرستيج وبلا راتب إلا رسوم الطلاب. في هذه السنوات
المبكرة كان يدرس قرابة ثمانية وعشرين ساعة في الأسبوع في مجموعة واسعة من
الموضوعات ضمنها الفلسفة علم أصول التربية/التدريس الرياضيات الفيزياء العلوم
الاجتماعية علم المعادن ومفضله الجغرافيا الفيزيائية. بعد فصول كان يستمتع بقراءة
الجرائد مع القهوة. في المساء كان يلعب الورق والبلياردو وغالبا يصل بيته بعد
منتصف الليل سكرانا كأقل ما يقال. أرغمته الظروف على العيش ببساطة في شقة مفروشة
فقط بسرير وطاولة وكرسي، ما عدا صورة ظلية لجان جاك روسو كانت الجدران عارية. ليضيف إلى مدخوله
الضئيل عمل كمساعد أمين مكتبة في القلعة الملكية.
طوال
ستينات وسبعينات القرن الثامن عشر كان ينشر كتبا ومقالات في العلم والفلسفة
والأخلاق والجمال والفلك والمنطق والميتافيزيقا. كان محبوبا بين طلابه ليس فقط لأن
محاضراته كانت حيوية لكن أيضا بسبب الملاحظات المرحة الكثير التي يقحمها. أخيرا في
1770 كان أسس كرسي المنطق والميتافيزيقا براتب يمكن أن يعيش عليه. بتنامي شهرته
تلقى عروضا من جامعات أخرى بعضها وعدت بأربع أضعاف راتبه. لكن في كل حالة كان رفضه
قاطعا، كان لزاما عليه كما كان أن يبقى في مدينة ميلاده. أي تغيير في محيطه المادي
بما في ذلك ترتيب الأثاث يجعله غير مستقر. الحكاية التالية فريدة، في الثمانينات (القرن الثامن عشر) طور عادة التحديق
خارج النافذة في قبة كنيسة بعيدة حين يعمل أو يتأمل. بعد عدة سنوات نمت أشجار في
حديقة جاره وحجبت القبة، بدأ كانط في التململ والقلق ثم وجد أنه غير قادر على
العمل. حلت المشكلة حين قام الجار المعجب بالرجل المشهور ووافق بسهولة على تقليم
الأشجار المخالفة. كان كانط يرفض السفر، لم ير أبدا جبلا
أو بحرا مع أن البلطيق كان مسافة ساعة فقط. ربما كانت هذه
الأوصاف ذات صلة بمرض الذاتوية.
أبلغ
التأثيرات على تكوين فكر كانط كانت دينية وسياسية وعلمية. تربى على التقاليد
البتسية (من الورع) حركة بروتستنتية تؤكد التقوى البسيطة والقبول لحالة المرء في
الحياة وعدم الاكتراث للطقوس والعقيدة. سياسيا كان كانط رجلا من عصر التنوير تكلم
لأجل حقوق الإنسان وأكد المساواة للرجل ودافع عن الحكومة الممثلة. كان تأثر عميقا
في هذه المسائل بالمفكر والمنظر السياسي السويسري-الفرنسي روسو الذي أثار تساؤلات
عميقة عن الطبيعة الاجتماعية للأخلاق ومشكلة عاطفة الفرد. في العلم درس أعمال إسحاق نيوتن التي جعلت أساسا لمحاضراته في الفيزياء
والفلسفة الطبيعية. في 1755 نشر نظرية التناوب/الدوامة الشهيرة التي تشرح أصل
العالم من دوران/تناوب السديم. اليوم هذه النظرية تعرف بفرضية كانط-لبلاس لأنه في 1796 الفلكي الفرنسي بيير-سيمون د.لبلاس نشر نموذجا مشابها مطورا أكثر.
نقد
العقل المجرد
نظرية الإدراك الحسي
نظرية الإدراك الحسي
شرح كانت
هذه النظرية في كتاب 1781 المؤثر "نقد العقل المجرد" الذي يستشهد به
كثيرا كأهم مجلد للميتافيزيقا ونظرية المعرفة.
فكرة
الله
«كان
كانت من المؤمنين بالله. إلا أنه يكل الإيمان إلى الضمير ولا يعتمد فيه على
البراهين العقلية التي تستمد من ظواهر الطبيعة. فالعقل في مذهب كانت لا يعرف إلا
الظواهر الطبيعية Phenomena ولا ينفذ إلى حقائق
الأشياء في ذواتها Noumena.» ــ عباس العقاد.
«أين
نجد إذا هذا المبدأ المتعالي على التجربة؟ أنجده في الدين والأوامر الإلهية، وهي
سلطة خارجة عن العقل؟... إنما نريد مبدأ آخر جديدا يعلو على التجربة ويفوقها، لكنه
من جهة أخرى لا يخرج عن العقل ونطاق ذاتيته. ووجد كنت هذا المبدأ، وسماه
"الواجب"» ــ عبد الرحمن بدوي.
ذكر كانت
الضرورة العملية للاعتقاد بالله في كتابه نقد العقل المجرد. كفكرة للعقل المحض،
"ليس لدينا أدنى أساس لنفترض طريقة مطلقة... موضوع هذه الفكرة..." لكنه
أضاف أن فكرة الله لا يمكن فصلها عن العلاقة بالسعادة والأخلاق "كمثل أعلى
للخير الأسمى". تأسيس هذا الاتصال هو عالم أخلاق معقول و"ضرورة من
النظرة العملية"؛ كما قال فولتير: "لو الله ليس موجودا، سيكون
ضروريا اختراعه". في "المنطق" 1800 كتب: "لا يستطيع أحد تقديم
حقيقة موضوعية لأي فكرة نظرية[4] أو تقديمها عدا فكرة الحرية لأن هذا شرط القانون الأخلاقي الذي
حقيقته مسلمة. حقيقة فكرة الله يمكن أن تقدم فقط بطريقة هذه الفكرة، من ثم فقط مع
غاية عملية، مثلا التصرف كما لو الله موجود، من ثم فقط لهذه الغاية".
ملاحظات
2. ^هي مزيج فكري في تاريخالفلسفة الحديثة. بدايتها وأساسها قدمه الفيلسوف
إيمانويل كانت. في نقاش القضاياوإثارة المشكلات بشكل رئيسي بين أعوام 1781 (صدور
نقد العقل المجرد) و1831
(موت هيغل) كانت وفرة منالأنظمة البديلة في قيادة الفكر
الفلسفي العميق والشروط الميتافيزيقية العالية
3. ^ظهرت في القرن التاسع عشروالعشرين وعند المتحدثين الإنجليزية في
النصف الثاني من القرن العشرين، تشمل هذهالفلسفة الحركات التالية: المثالية الألمانية، الظاهراتية،الوجودية (ومفكريها السابقين مثلكركغاردونيتشه) التأويلية،البنيوية،مابعد البنيوية، النظرية النقدية
لمدرسة فرانكفرت وعدة فروع أخرى للماركسيةالغربية
4. ^يعرف كانت المعرفة النظريةبأنها "معرفة ما يكون" أما
العملية فهي "تصور ما يجب أن يكون". ــ نقد العقل المجرد
إيمانويل
كانت
ولد
إيمانويل كنت في كونيجزبرج الألمانية في ( 22إبريل 1724 ) من أصول اسكتلندية كما
يحكي هو عن نفسه فهو يخبرنا عن جده أنه «هاجرفي ختام القرن الماضي من اسكتلندا إلى
بروسيا، ولا أدري لم».
يعني اسم
إيمانويلبالألمانية «الله معنا» مما يشير إلى نشأة دينية. تزوج أبوه يوهان جيورج
من آنارويتر وكان إيمانويل رابع أبنائهما الأحد عشر الذين ماتوا في سن مبكرة ولم
يتبقمنهم إلا أربعة.
٭ النشأة
كان والد
كنت سرّاجا مجتهدا في عمله. أما والدتهآنا رويتر فكانت شديدة التدين حريصة على
سماع المواعظ مما دعاها إلى إلحاق إيمانويلبمعهد فردريك الذي بقي فيه لمدة ثماني
سنوات قاسية يصفها بقوله «إن الخوف والرعدةيغلبانه حين يتذكر تلك الأيام». توفيت
أمه وهو في الثالثة عشرة من العمر فيما توفيوالده حين كان عمره اثنتين وعشرين سنة
مما يعني تحمله لجزء من مصاريف أسرته. يفسرالبعض بهذه النشأة القاسية تلك الصرامة
والجدية التي كانت إحدى سمات هذا الفيلسوف.
٭ العمر كله للعلم
ذكرنا أن
كنت دخل بدفع من أمه معهد فردريك وبقي فيهلمدة ثماني سنوات ثم التحق بعد ذلك
بجامعة المدينة «كونيجزبرج» في سبتمبر سنة 1740. تعلم كنت في المعهد الكلاسيكيات الرومانية واستظهر الكثير من نصوص الأدب
اللاتينيالشعرية والنثرية. أما في الجامعة فقد حضر دروس مارتن كنتوسن في
الفلسفةوالرياضيات، ومحاضرات شولتس في علم أصول الدين ودروس تسكه في الفيزياء.
وبسبب ظروفهالمادية ترك الدراسة ليعمل مدرسا خصوصيا عند بعض الأسر الثرية في
المدينة وريفهاإلا أنه تابع دراسته في أوقات الفراغ وأعد رسالة الماجستير وأطروحة
الدكتوراه سنة 1755 بعنوان «في النار» كما أعد أطروحة
ثانية عن «المبادئ الأساسية للمعرفةالميتافيزيقية» سمح له بعد ذلك بأن يحاضر في
الجامعة بوصفه «معلماً خاصاً» لا يكافأإلا بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. استمر
على هذا الوضع القلق لمدة خمسة عشر سنةإلى أن خلا كرسي المنطق والميتافيزيقيا فعين
فيه سنة 1770 حتى 1796. في سنة 1780أصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأكاديمي وبعد سنوات
أصبح عضوا في الملكية للعلوم فيبرلين. وتولى عمادة كلية الآداب خمس مرّات، وكان
مديرا للجامعة لفترتين كل فترةسنتان. استمر في عمله في إلقاء المحاضرات في الجامعة
وإجراء البحوث والمشاركة فيالمؤتمرات إلى أن بلغ سن الشيخوخة واقتربت حياته من
النهاية.
٭ الفقر رفيق الدرب
يمكن لنا
القول أن كنت عاش أغلب فترات حياته خصوصابدايتها وفترة الشباب في حال اقتصادية
سيئة. فقد ولد كما سلف في عائلة فقيرة وتحملجزءا من مسؤولية الأسرة وهو في العشرين
من عمره. كما أنه بقي في الجامعة بدون دخلثابت فقد كان دخله يأتي من خلال ما يدفعه
طلابه فقط وقد رفض طلبه الأستاذية في هذهالفترة مرّتين. وظل فقيرا ينتقل من نزل
إلى نزل. وقد حاضر في مواضيع متباينة من أجلاجتذاب عدد أكبر من الطلاب. وكان عليه
أن يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بدكما يذكر بعض المؤرخين أن كنت المعلم
كان يختلف عنه كمؤلف اشتهر بغموضه وتعسر فهمه.
٭ «كنت» العازب الشهير
شهيرة هي
عزوبية «كنت» طوال حياته، تناولهاالباحثون بشكل واسع فمنهم من عزا إليها الصرامة
والجدية التي وسمت حياة كنت ومنهممن حاول أن يستنتج منها موقفا لكنت تجاه المرأة.
الكثير ينسى أن الفلاسفة العزابليسوا بالقلة نذكر هنا المشاهير أفلاطون وديكارت
وليبنيتز وهوبس ولوك وهيوم. ولكنهل كان كنت معرضا لمبدأ الزواج ؟ شهادات عدة
محفوظة تثبت أنه لم يكن رافضا لمبدأالزواج بل إنه أحب وعشق وفكر بالاقتران مرتين.
يقول أحد أصدقائه «حسبما أعلم»، أبدىكنت عن عزمه الحادّ على الزواج مرتين: في
الأولى تعلّق الأمر بأرملة رقيقة جميلةأجنبية (أي ليست من مدينته) كانت تزور أقاربها في «كونيغسبرغ» ولم
ينكر كنت أن هذهالسيدة كان يود أن يعيش معها، لكنه فكر في الدخل والتكاليف، فراح
يؤجل القرار يوماإثر يوم. ثم إن هذه السيدة الجميلة قامت بزيارة أصدقائها في
الجبال وهناك تزوجتبرجل آخر. وفي المرّة الثانية جذبته آنسة جميلة من وستفاليا،
كانت مرافقة سفر لسيدةنبيلة لها أملاك في بروسيا الشرقية. واجتمع كنت بالفتاة في
اجتماعات، وكانت رقيقةوتحسن القيام بشؤون البيت، وأبدى كنت تعلقه بها، لكنه تردد
كثيرا في التقدم إليهابرغبته، حتى أنه فكر في الذهاب إلى زيارتها لما كانت قد
غادرت بروسيا ووصلت إلىحدود وستفاليا. ومنذ ذلك الوقت لم يفكر في الزواج.
طبعا كان
هذا السؤال يطرح كثيرا على كنت. وحين كان يلقى عليه هذا السؤال، خصوصا في السنوات
الأخيرة من حياته، لم يكن يتلقاه بقبول حسن، بل كان يغيّر مجرى الحديث، ويرى أن
ذلك إلحاح في تفقد شؤونه الخاصة. كان كنت يستمتع بالحديث والحضور مع المثقفات مع
النساء لكنه، وهذا يدعو للتأمل، إذا أرادت امرأة أن تذكّره ب«نقد العقل المحض»
كتابه الأشهر أو أن تحدثه في الثورة الفرنسية،وهو موضوع كان يحب الحديث فيه في
اجتماعات الرجال، فإنه كان ينصرف عنها.
وقد ورد
في إحدى رسائله إلى إحدى النساء حين دعاهاإلى لقائه التالي «وإني أبعث إليك بقبلة،
وأرجو أن يكون الهواء متعاطفا، حتى لاتفقد القبلة حرارة عاطفتها». يقول كنت في
إحدى إجاباته القليلة عن عدم زواجه وكانقد بلغ الخامسة والسبعين بروح من النكتة
«عندما كنت في حاجة إلى زوجة، لم أكن قادراعلى إطعامها، وعندما أصبحت قادرا على
إطعام زوجة، لم أعد في حاجة إليها». فهل كانالفقر هو سبب عزوف كنت عن الزواج الذي
كان يعرّفه بأنه «ارتباط بين شخصين مختلفيالجنس غايته التملك المتبادل المستديم
لخصائصهما الجنسية» والذي جعل شرطا لنجاحه «أن يكون الزوجان مثل شخص معنوي واحد، يحيا ويسلك بفضل عقل الرجل وذوق
المرأة».
٭ الفيلسوف والموقف من
السياسة
«كنت» هو
أحد رموز التنوير الكبار وفي عصر الملكفردريك الثاني (1740 - 6871) ازدهرت أفكار
التنوير وأثرت الفلسفة الكنتية في أوساطالمفكرين والأدباء وبعض الأوساط في إدارة
الدولة لأن هذا الملك كان مشجعا للعلموالثقافة وحرية الرأي. ولكن بعد تولي ابن
أخيه فردريك فلهلم الثاني، العرش في برلين (1786 - 7971) بدأت حملة ضد التنوير وحرية الفكر وانتشرت الرقابة في أرجاء
المملكةوكان كنت أبرز من استهدفتهم هذه الحملة وصدر مرسوم ملكي يمنعه من الاستمرار
فيالكتابة والنشر (1791) لكنه لم يتوقف عن الكتابة ووصل الأمر بالناشرين إلى
رفعالتماس إلى الملك. ولما نشر كنت كتابه «الدين في حدود العقل فقط» سنة 1793 صدر
قرارمن مجلس الوزراء مخاطبا الفيلسوف «إنك لا بد تدرك كم أنت مسؤول بوصفك معلما
للشبابوأمام واجباتنا وأغراضنا الوطنية المعروفة جدا.
ونرجو من
سيادتك الشريفة أن تتحلىبالمسؤولية الواعية، ونأمل منكم - تجنبا لعدم رضانا العالي
- ألا ترتكب أمرا من تلكالأمور، بل تستخدم مكانتك وموهبتك ووفقا لما يمليه عليك
واجبك - في تحقيق نواياناالوطنية، وإلا فإن استمرارك في هذا الطريق سيؤدي بنا حتما
إلى اتخاذ إجراءات غيرمرضية لك». وتحت هذا التهديد المغلف بالاحترام قرر كنت الصمت
في ما يخص الموضوعاتالدينية يقول في رد على الرسالة الملكية «إن إنكار واستنكار ما
يقتنع به المرء أمرمهين دنيء، لكن السكوت في حالة كهذه هو واجب المحكومين، وحتى لو
كان كل ما يقولهالإنسان صحيحا فليس من الواجب أن يصرّح بكل الحقيقة علانية». كان
شعار كنت في هذاالموقف كما يقول عبدالرحمن بدوي «لا أقول إلا ما أعتقد أنه الحق
ولكنّي لا أصرّح بكل ما أعتقد أنه حق».
٭ كنت والثورة الفرنسية
بدأت
الثورة الفرنسية ( 1789 ) وكنت في أوجه الفلسفي وكان موقفه منها معبرا عن حقيقة
تقييمه للأحداث السياسية في عصره. واشتدحماسه لها قناعة بمبادئها (الحرية والإخاء
والمساواة) رغم أن حماسه قد فتر مع التحولات الدموية التي جرّت الثورة نفسها إليها
وراحت تأكل بنيها. إلا أن كنت بقي وفيّا للقيم كان مؤمنا بها مع فلاسفة الثورة
فولتير وروسو وديدرو الذين كان متواصلا معهم بشكل كبير، كتب كنت عن الثورة
الفرنسية يقول «مثل هذه الظاهرة لا يمكن أنتنسى، إذ هي كشفت في الطبيعة الإنسانية
عن استعداد للعمل لما هو أفضل لأن هذاالحادث هو من العظمة ومن الارتباط الوثيق
بمصالح الإنسانية ومن سعة التأثير في العالم بكل أجزائه، إلى حد أنه ينبغي أن
تذكّر به الشعوب في الظروف المناسبة، وعندالمحاولات الجديدة من هذا النوع».
٭ كنت والدين
عرفنا أن
كنت قد نشأ في أسرة متدينة خصوصا والدتهإلا أنه مع تطوّره الفلسفي بدأ في فهم خاص
للدين. فقد كان يرى الفصل الكامل بينالفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن
المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخلفي الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع
أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أوالعكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس
على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لاتحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية
عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليهاالوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل
هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمنبه ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين
وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته. كان كنت رافضا
بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف
الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يومدراسي «اليوم الأكاديمي» بالمدينة حتى
يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان
كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسةانصرف عن الموكب واتجه لبيته.
٭ الجدول اليومي الصارم
اشتهر كنت
بجدوله اليومي الصارم ومن المبالغات فيهذا الشأن أن جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم
على خروجه للمشي يوميا في الساعة الرابعةوالنصف عصرا مرتديا معطفه الرمادي وعصاه
في يده. يذكر أنه لم يتأخر عن هذه النزهةإلا مرّة واحدة بسبب قراءته لرواية «إميل»
للفرنسي جان جاك روسو ولا يزال الشارعالذي كان يسير فيه يسمى «نزهة الفيلسوف». كان
يستيقظ يوميا في الخامسة صباحا ويذكرعن نفسه أن لم يستغرق في النوم لما بعد
الخامسة على مدى ثلاثين عاما، يبدأ يومهبشرب القهوة، فالكتابة، فالمحاضرة فالغداء
ثم الخروج للنزهة والمشي. كما أنه كانيخلد للنوم في العاشرة مساء. وبسبب اعتلال
صحته أنه كان لا يتنفس إلا من أنفه فيالبرد ولذا لم يكن يسمح لأحد بالحديث معه
أثناء نزهته اليومية في فصول الشتاءوالخريف والربيع، إذ سيضطره الكلام إلى التنفس
من فمه. وكان يقول: الصمت خير منالمرض. ويذكر ديورانت أنه طبق الفلسفة حتى على ربط
جواربه، فكان له طريقة خاصة فيربطها برباط يمر بجيوب بنطلونه. وكان يفكر في كل شيء
تفكيرا طويلا قبل أن يقدمعليه.
٭ نهاية الرحلة واستمرارالفلسفة
في 8- 10 - 1803 أصابت كنت نوبة
قلبية فلازم الفراشطيلة أربعة أيام ثم نهض وكان يتناول الطعام مع زائريه. لكن قوته
بدأت تتلاشى وفيالساعة العاشرة من صباح 12- 2- 1804 سمعه أحد تلامذته يهمس بآخر
كلماته «حسن» وأغمضعينيه. يقول مرافقه «كان موته توقفا للحياة، لا فعلا عنيفا
للطبيعة» وودعت مدينةوجامعة كونيغسبرغ فيلسوفها في مأتم مهيب، ودفن في «قبو
الأساتذة» في مقبرة الجامعة دون أية مراسم دينية، وبعد أن نقل رفاته مرارا بسبب
تقلّب الأحوال أنشئ له ضريح فيسنة 1924 بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده
ونقشت عليه العبارة الشهيرة منخاتمة كتابه «نقد العقل العملي»: «شيئان يملآن
الوجدان بإجلال وإعجاب يتجددانويزدادان على الدوام كلما أمعن التأمل فيهما: السماء
ذات النجوم من فوقي والقانونالأخلاقي في صدري». يقول ديورانت عن كنت «هذا الفيلسوف
الضئيل الحجم الذي لم يتجاوزالخمسة أقدام في طوله، والذي امتاز بالاعتدال
والانطواء على نفسه، كان يحمل في رأسهأعظم ثورة في الفلسفة الحديثة». فيما يصفه
عبدالرحمن بدوي في موسوعة الفلاسفةب«أعظم فلاسفة العصر الحديث».




1:49:00 ص
يوسف بوستة
في :
0 التعليقات:
إرسال تعليق